25
- Abed El-Hakim El-Kadiry
- May 4, 2019
- 5 min read
Updated: May 5, 2019

يدفع سؤالُ صديقي غير المسبوق بإنذار حجرَ بلوك يهوي من عَلٍ على إصبع قدمي الأصغر: "ما شعورك وأنتَ موشكٌ على الخامسة والعشرين؟".
أبتلع ريقي. ولكن لا أستطيع ابتلاع الخضّة.
---
قبل سنوات بعيدة، كنت أمسك أبي بيد، وبالون الهيليوم الذي اشتراه لي دون مناسبة باليد الأخرى، ونحن وقوف على رصيف شارع الكولا، بانتظار الفان الذي سنستقلّه إلى بيتنا في صيدا. كنّا في آب، وكان النّاس في تدافع مستمرّ، باعة متجوّلون، نساء قذرات يحملن أطفالًا قذارى يحملون ألعابًا متفسّخة، قمصان متعرّقة عند الإبط، رجال يفكّون أزرار بنطلوناتهم في وجه حائط للتّبوُّل، وسائقون ينشرون أعراضَ بعضهم على النّوافذ الـمُغَبَّرة.
لا أدري ماذا شتّت انتباهي للحظات، ثمّ حين رأيت الفان قادمًا تجاهنا، لم أجد البالون في يدي، ولا في أيّ مكان آخر، وأبي يشدّني باليد الأخرى لكي نركب ونلحق اختيار مقعدين نظيفين على جهة اليسار، لأنّ مضرب الشّمس عند الثّالثة ظهرًا يكون على اليمين.
ولكن يا أبي البالون. "طزّ، هيّا سنشتري غيره لاحقًا."
---
قبل أيّام قليلة من سؤال صديقي، كنت أحاول الكتابة تحت تأثير نبيذٍ رخيص، صنعَ جنوب إفريقيا، Ne Me Quitte Pas بصوت نينا سايمون على هاتفي الذي تُحتضر بطّاريّته، وأضواء الشّارع الذي يفيض بمطر الآخر من نيسان منعكسة على باب شرفتي.
كنت أكتب وأمحو، أمحو أكثر ممّا أكتب، أمحو بياض الصّفحة حتّى، وأنا أُدَلِّل وساوسي وأطمئنها أنّ الصّفحة يمكن أن تكون أكثر بياضًا بعد.
ثمّ تئنّ نينا، ويئنّ معها صوت أفكاري "Ne Me Quitte Pas، لا تتركني، لا تتركني"، فأضحكُ وقد بدأت الثّمالة بعد الكأس الثّالث تتملّكُني، وعيناي الزّائغتان ترقبان موهبتي تقفز من حرفٍ لآخر على لوحة المفاتيح وتتركني، تتركني، وأنا عاجز عن فعل شيء.
العجز. للمرّة الأولى أشعر بهذا القدر منه. ولكنّي واحدٌ من كثيرين يحبّون ربط الأشياء (إلّا ذلك البالون الذي اختفى من يدي طبعًا)، ووضع معادلات حسابيّة بسيطة، أ + ب = ي، ولهذا كان لا بدّ لي أن أجد سببًا منطقيًّا لهذا العجز المستجدّ والمستبدّ معًا. وبعد التّفكير تبيّنتُ الآتي:
الإنسان، ولو كان عدّاءً أولومبيًّا مع رزمة ميداليّات، بعد أن يجري ماراتونًا كبيرًا يركن إلى زاويةٍ ما ويقتعدها لاهثًا. إنّها الطّبيعة الإنسانيّة المرّة. وأنا على وشك أن أقطع ماراتونًا كبيرًا، يوبيل الحياة الفضّي كما تفضّل ذات يوم أحد السُّفهاء، ولهذا فإنّ آثار الإجهاد ليست مستغربة. المستغرب هو أن أظنّ أنّي لا أقهر، أو أنّي “entitled” (لم أجد ترجمةً حرفيّة دقيقة، ولهذا سأكتفي بالمفردة الإنكليزيّة)، entitled للحبّ والسّعادة والنّجاح والمشي على صفحة الماء.
في الصّباح التّالي بعد تلك السّكرة، أخذت حمّامًا طويلًا ساخنًا، شربت القهوة، ثمّ فتحت اللّابتوب الذي غطّ نائمًا أحسن منّي، وإذ بي أقرأ ما كنت كتبته (عذرًا على قَيْء المقطع):
بعد أيّام أطفىء شمعتي الخامسة والعشرين.
لن يكون حول قطعة الكاتو التي سأشتريها لنفسي أحد، سأكون أنا، وسآكل القطعة حتّى من دون شمعة، غالبًا لأنّ على الحاسوب أعمالًا مكدّسة يجب إنجازها في أسرع وقت.
الأرصاد تقول سيكون يومًا ماطرًا، سبب آخر إذن لئلّا أحتفل مع أحد، بمن فيهم الألف صديق/عدوّ/جاسوس على الفايسبوك، والألف متابع/ناقم/حاسد على الإنستاغرام. سأجالس وحدتي، وقد آخذ ساعة أو ساعتي راحة لأقرأ كتابًا في مديح الإيجابيّة. أثناء ذلك، من الأفضل للشّوكولا أن يقوم بعمله في رفع السّيروتونين، وإلّا وضعت الكتاب جانبًا، أطفأت الحاسوب، ونمت. ياه، أسمع النّبرة في كلامي وأسأل: هل يجري الصّبر على أرجل العمر؟
25. الرّقم ضخمٌ وصعب. يا إلهي كيف ستنزل قطعة الكاتو على معدتي؟ هل يجب أن آخذ حبّة حماية باكرًا، تفاديًا للآلام؟ هل حقًّا مرّ كلّ هذا الوقت مذ ضربتُ على قفاي؟ وهل ما زال هناك ضعفاه سيمرّ حتّى أُمدّد على قفاي؟ ولكن لا بأس. أعزّي نفسي بأنّي لست أوّل أو آخر إنسان يفكّر بهذه الطّريقة.
حسنًا، الكتاب الذي أقرؤه يقول إنّ الإيجابيّة ليست فكرة، وإنّما تنبع من الفكر، والفكر طيّع. إذن، فَلأُفَكِّر بشيء يرسم على وجهي الإبتسامة.
أمّي. ربّما ستتمنّى لي على الواتسآب عمرًا مديدًا وتدعو الله أن يبعد عنّي أولاد الحرام وما أكثرهم.
أخي. سيعايدني ويذكّرني بأن أجد فتاةً أقاسمها سريري المفرد، وبرّادي المصغّر، وقلبي الذي لا يني يضمر.
وأختي. سأجدها تجمع صورنا سويًّا لتنزلها على الإنستاغرام، في ما يشبه الحفلة الإفتراضيّة.
ولكن... أنا لا أريد كلّ هذا.
لا شيء يدعو إلى الإحتفال. نحن نكبر، وفي الكبر ليست ثمّة فرحة أو حفلة، الإحتفال المنطقيّ الوحيد هو ذاك الذي ندعو إليه أفكارنا السّوداء، نشاركها الفطائر والشّوكولا، نقدّم لها كأسي فودكا أو ثلاثًا، ثمّ نأخذ معها صور السّيلفي وهي تتأرجح ثملةً، عاجزة تمامًا عن الإقتطاع من سعادتنا، كما اعتادت من عام إلى عام.
سأمحو المقطع تمامًا.
ثمّة الكثير منّي فيه. وأنا معتادٌ على أن أكتب قصصًا فيها شخصيّات بأسماء مختلفة ليست في قائمة هاتفي حتّى، أضع فيها عِلَلي ونقصي وأمراضي الجسديّة والنّفسيّة، ثمّ أُلبِسُها عشرَ طبقات لحم، وفوقها أطقمٌ وبِدَلٌ وفساتين وجلابيب، وأعطيها أوراقًا ثبوتيّة مزوّرة، وأجلسها في أبعد زاوية ممكنة، حيث لا يمكن لأنظارنا أن تلتقي ولو بالخطأ. وبعد كلّ هذا أضع في بداية القصّة تلك الجملة المملّة التي تتناسخ منذ لا أعلم متى "هذه الشّخصيّات لا تمتّ إلى الواقع بصلة". أقسم، أحيانًا حين أرى هذه الكلمات في افتتاحيّة رواية عربيّة مملّة أو مسلسل لبنانيّ ممحون، أستقصد أن أقرأ "بَصَلَة"، على أمل أن أدمع وأبكي على انعدام الموهبة.
سأمحو المقطع، ولن أشرب مجدّدًا وأنا أكتب.
في المرّة القادمة، سأكون في وعيي الكامل.
--
"ما شعورك وأنت موشك على الخامسة والعشرين؟".
يعيد صديقي سؤاله، وأنا أتصنّع عدم سماعه. ولكنّه يصرّ. هل أقول له إنّي أكره اللّجوجين؟ ولكن لا. صبرًا. لقد اقترب يوم ميلادي وإن أخبرته بذلك يمكن أن تصير حقيقةً إمكانيّةُ أن أمضي اللّيلة وحيدًا. ربّما أنتظر إلى الصّباح الذي سيلي يوم ميلادي، ثمّ أقول له ذلك.
إنّه يريد جوابًا. الآن. لا يقولها صراحةً، ولكنّ إصرارَه يتقاذَفانِهِ بُؤبُؤاه.
"منيح اللّي ذكّرتني. بتصدّق كنت نَسْيان إنّو عيد ميلادي؟ 25؟ شو بعرّفني يا زلمي، متل كلّ سنة، عادي."
يا إلهي لماذا أشعر في حضرة بني حوّاء أنّ رأسي بحجم مجرّة، وفيه نثار كلمات وأفكار وإجابات لا تنضب، ثمّ حين أفتح فمي لأجيب، لا أجد ما أقوله، ولا تخرج منّي سوى بضع كلمات رتيبة وعديمة الفائدة؟
يضحك صديقي بلا سبب، ثمّ نعود إلى شاشات تليفوناتنا نضع قلوبًا على صور ناس لا نعرفهم ولا يعرفوننا ولا يعني أحدنا للآخر شيئًا. في هذه الأيّام، صار سعر الحبّ بسعر نقرة إصبع.
ثمّ فجأةً، أتذكّر قصّة البالون الذي طار منّي، فأروح أتخيّل سيناريو آخر للمشهد السّابق، لأنّ هذا ما أجيده فقط، التّخيّل...
يسألني صديقي دون سابق إنذار، "ما شعورك وأنت موشك على الخامسة والعشرين؟".
أرنو إلى البعيد، أبتسم بغموض، أنا الكاتب المخدوع بجماهيريّة وهميّة. ثمّ أقصّ عليه تلك الذّكرى.
أقول، قبل سنوات بعيدة، كنت أمسك أبي بيد، وبالون الهيليوم الذي اشتراه لي دون مناسبة باليد الأخرى، ونحن وقوف على رصيف شارع الكولا، بانتظار الفان الذي سنستقلّه إلى بيتنا في صيدا. كنّا في آب، وكان النّاس في تدافع مستمرّ، باعة متجوّلون، نساء قذرات يحملن أطفالًا قذارى يحملون ألعابًا متفسّخة، قمصان متعرّقة عند الإبط، رجال يفكّون أزرار بنطلوناتهم في وجه حائط للتَّبوُّل، وسائقون ينشرون أعراض بعضهم على النّوافذ الـمُغَبَّرة.
لا أدري ماذا شتّت انتباهي للحظات، ثمّ حين رأيت الفان قادمًا تجاهنا، لم أجد البالون في يدي، ولا في أيّ مكان آخر، وأبي يشدّني باليد الأخرى لكي نركب ونختار مقعدين نظيفين على جهة اليسار، لأنّ مضرب الشّمس عند الثّالثة ظهرًا على اليمين.
ولكن يا أبي البالون. "طزّ، هيّا سنشتري غيره لاحقًا."
يضع صديقي إصبعه على خدّه، أنظاره المهتمّة تقول إنّه يريد النّفاذ إلى عالمي، ثمّ الإنتقال بين مشابك دماغي العصبيّة لاكتشافها عصبًا عصبًا. أتأكّد من هذا حين يسأل:
"ماذا تعني؟ وما علاقة ذكراكَ بسؤالي؟"
هنا، أعطيه تأشيرة الدّخول. أتركه أمام اللّوحة في متحف عقلي، وألوان اللّوحة تتبدّل تختفي:
ألم تفهم بعد يا صديقي؟
الفان الذي كنت أنتظره على الرّصيف هو حياتي.
وأبي الذي راح يشدّني من يدي لكي أصعد هو الخامسة والعشرين.
والبالون الذي كنت أمسك به هو كلّ تفصيلٍ جميل.
وأنا لا أدري ماذا شتّت انتباهي، ثمّ حين نظرت متأخّرًا إلى يدي، لم أجد فيها شيئًا.



Comments